طابور العيش
لماذا طابور العيش ؟ أحببت أن أتكلم عن طابور العيش لأنه يمثل حياة الشعب المصري وهمومه وآماله وترى فيه كل أحوال البلاد .
في البداية كان عندنا حارس للعقار كما يسمى بالفصحى ولكنه لم يكن له أي صلة بالحراسة كان يجلب الخبز للعمارة والطلبات لسيدات المنازل القابعين في بيوتهن وصباحاً يمسح السيارات للرجال . حتى أن شقة بالعمارة سرقت ولم يتم الإبلاغ خوفاً على الحارس من الشرطة وحتى أنه تعرض للسرقة أثناء وجود أسرته بالغرفة الخاصة بهم. إذن هو ليس بحارس للعقار ولكنه بواب كما هو متعارف عليه في التسمية العامية .
بعد رحيل البواب جاءت مشكلة الخبز الأسمر " أبو ردة " وحيث أنه صحى ورخيص الثمن فلا تستغنى عنه الأسر المتوسطة . فقالت والدتي بدفع أجرة لأي شخص يحضر لنا الخبز ولكني أحببت أن أنزل بنفسي لشرائه مما ساء أمي كثيراً فكيف أختلط بعالم البوابين وأمثالهم ممن لا يحسنون الحديث وقالت أني سأتعرض لمضايقات وبالعربي " مش حسلك وسطهم " ولكني صممت على احضاري الخبز وذلك لأسباب .
أولا : لمعرفة مشاكل الناس ومعاناتهم لابد لك من معرفة أحوالهم وتجربتها
ثانيا: لقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " قد يتساءل البعض وما علاقة ذاك بتلك
وأنت واقف لساعات أو نصف ساعة في أفضل الأحوال في الطابور تختلط بأناس نالوا قدر بسيط من التعليم وقدر معدوم عند البعض من التربية الأخلاقية أو الاسلامية قوم لا يعرفون واجباتهم نحو غيرهم ولا يعرفون حقوقهم قوم أضلهم الحاكم وجهلهم
فالمتعلم العارف بقدر طيب عن الاسلام والأخلاق والحقوق والواجبات عليه أن ينشر ذلك العلم والمعرفة بين هؤلاء وليس بين المثقفين والصفوة .
هنا مجال الدعوة .. هنا حق هؤلاء علينا نحن من قدر الله لنا أن تفتح أمامنا أبواب المعرفة أن نرد الحق لأصحابه أن نزكي عن تلك المعرفة والعلم هنا مجال ذلك .. في طابور العيش.
ثالثا : لأني أحب الإعتماد على نفسي حتى في أبسط الأشياء ولا أكل شئ من أمرى لغير الله .
رابعاً : لأني أمي تحب ذلك النوع من الخبز ولا ترضى بالخبز الأبيض بديلا مع حمد الله أننا نستطيع شراء أي نوع آخر من الخبز .
للوقوفي في طابور العيش مساؤي ومحاسن .. سأسوق لكم المحاسن لقلتها أولا.
وجدت أن البوابين حتى في تعاملهم مع العيش أنشأوا استراجيات مثل أنك يجب أن تحضر شبكة وذلك لأن الحقائب البلاستيكية مع سخونة الخبز تؤدي لتعجنه
البعض يحضر قفص أو كرتونة وهناك ما يسمى الشراعة وهي طاولة مستطيلة لحمل الخبز وهي الأفضل ولكني .. لا استطيع التعامل معها وأكتفي بالشبكة :)
ثانيا بعد خروج الخبز لابد من تهويته قليلا ووضعه بالمقلوب لكي لا يتجمد
بعد ذلك تجميع الخبز المحمص قليلا قبل الطري
وجدت أن البوابين اكتسبوا خبرة ينظرون للخبز فيعرفون الطيب من الغير ناضج كفاية ويعبرون عنه بكلمة " المسكع "
أما عن مساؤي طابور العيش :
فحدث ولا حرج عن ضياع الوقت ووجع القدم من طول الوقوف وتلاحم الناس لا أعرف لماذا والشمس الحارقة ولو أن الفرن الذي أذهب له يضع مظلة كبيرة ( لكن ليس الحال كذلك في بعض المخابز الأخرى ) وطنطة الكلمات والصوت العالى الذي يوجد مع تواجد النساء والاشتباكات بين النساء من تلي من ومن كانت هنا وذهبت لقضاء حاجات ورجعت ..
من الملاحظ في طابور العيش أن الرجال فيه صامتون للغاية وترى طابورهم يمشي في ثبات وبمعدل منتظم وبدون خلافات وعلى مدار سنين لم أر الا اشتباك واحد بين الرجال استل على أثره أحدهما منجل من بائع الموز المار في الطريق .
صاحب الفرن ::: ده حكاية لوحده :::
المخبز به أكثر من رجل على ما أعتقد أنهم أقارب جميعاً
الأول : شخص كبير السن يدعى فاروق يكره النساء ويكره مشاكلهم ويقال أنه يبغضهم جميعاً
ولو أني أراه الأفضل حيث يتمسك بالنظام ودفع الحقوق لأصحابها.
من المفارقات الطريفة أنه يبتسم لي وهو يعطيني الخبز حتى أن إحدى السيدات قالت لي فلان يبتسم في وجهك .. فتعجبت وقلت لها وماذا في ذلك قالت لي هو لا يبتسم لأي امرأة فينا أبداً
هههه عجباً لأول مرة أنتبه لأنه اسم على مسمى ..فهو فاروق يفرق بين الحق والباطل صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال أن لكل منا نصيب من اسمه .
الرجل الثاني : سعيد .. هذا اسمه وهو سعيد دائماً مهما حدث فلا تفارقه الابتسامة ويميع المواضيع كلما اشتكى له شخص جار عليه آخر في الطابور ويحب الأطفال ويحنو عليهم دائماً وأعتقد أنه يعرف الناس جيداً ويعرف معادنهم كذلك .
كنت أشعر أن الله ساقني لطابور العيش لأخدم أهل منطقتي بنشر ما أعرفه ولو أني لم أسلم من الناس وأذاهم .
أذكر أني يوماً اعترضت على أن البعض يجور على حقوق الواقفين ويأخذ دورهم فتطاولت على إحدى السيدات بأني مرفهة وليس ورائي أولاد أو غسيل .. ساءني رد فعل رجل محترم قال لي معلش ولا تنزلى لمستواها .. قلت له إما أن تقول كلمة حق يا سيدي أو لا تتدخل البعض يعتقد أن من الدين كلمة معلش وسامح وما إلى ذلك حتى استمرأ البعض الظلم والجور على غيرهم ولا أرى ذلك من الدين بل نقول كلمة حق ونرد الحق للضعيف .
مرة أخرى احتدم النقاش على طفلة صغيرة كانت النساء البدينات يجنبنها ووقفت طويلا مزوية لا تعرف كيف تأخذ حقها فتناقشت مع السيدة محذرة اياها أنها تأخذ مكان الطفلة فاعتذرت لأن الطفلة " تبعي " ونبهتها أنها ليست معي ولكن عليها ألا تأخذ حق أحد وخاصة الضعيف فليس منا من لم يرحم صغيرنا .
كم تناقشت مع السيدات فيما يخص الدين والسياسة في طابور العيش فإن بعض النسوة يفتين في الدين بغير علم على الاطلاق وفي أمور عادية ومعلومة لمن نال قسط طيب من العلم الشرعي وكنت أغار على الدين وأنبه السيدات ألا يفتين من غير علم .
الباب الخلفي :
الرشوة
في طابور العيش ... نعم بالطبع حتى في طابور العيش
عندما يحضر رجل بسيارته ويدخل من الباب الخلفي ويأخذ ما يريد من الخبز بدون طابور فهي رشوة سواء مادية أو معنوية فقد أخذ حق غيره
عندما يحضر مخبر ويأخذ الخبز بالطبع من غير طابور فهي رشوة أو اتاوة
تجد نفسك تقف بالطابور ولا يتحرك لأن هناك من يأخذ الخبز بكميات اكثر من المحددة للفرد من الباب الخلفي .
لو أنهم يتدبرون أن الراشي والمرتشي في النار لو أنهم يتدبرون أن مجرد ربع جنيه زيادة حرام سيآخذ به العبد يوم القيامة أفلا يتدبرون !!!
فلا تنظر لصغر المعصية ولكن انظر لكبر من تعصى
بعد الثورة جاء مخبر لأخذ بعض الأرغفة وعندما قال له رجل المخبز أين الحساب قال له الحساب يوم الحساب .. أحسست أن الثورة آتت أكلها على الأقل اعترض على الإتاوة ولو أنه كان عليه أن يتمسك بأن يجعل المخبر يدفع النقود أو لا يعطيه الخبز . المسألة ليست في ربع الجنيه المسألة كانت مسألة مبدأ ومن يتهاون في حق صغير قد يتهاون في حقوق كبيرة لذا وجب على رجل المخبز أن يتمسك باحقاق الحق ليستقيم الأمر بعد ذلك ولا نعود للعهد السابق من الاتاوات والرشاوى من أول طابور العيش وحتى رئاسة الجمهورية .
عندما تخرج من طابور العيش تشعر أنك انتصرت وأنجزت في حياتك شئ مهم لقد حصلت على الخبز الساخن لا أنكر أن رؤية رغيف العيش الناضج تسر العين .
معلومة ساقها الله لي يقال إذا خفت أن الطعام لن يكفي في وليمة أو في حضور عدد من الناس لم تكن مستعد فعليك بقراءة : بسم الله الرحمن الرحيم
لإيلاف قريش . إيلافهم . رحلة الشتاء والصيف . فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف .
صدق الله العظيم
والدتي طالبت بانسحابي العاجل من موقعة العيش ولا أعرف هل سيكون انسحاب أم انهاك من الحرب :))
5 comments:
ززززززززززززززززززز
مفيش بهزر مع نفسي
:-)
فكرتيني بالذي مضى
كنت أحترف الوقوف في طابور الخبز بالساعات، كان ذلك في الثمانينيات من القرن الماضي حيث كانت الأزمات الغذائية لا تزال في أوجها وكانت وزارة التموين لا زالت هي المسؤلة عن توزيع كافة المواد الغذائية بلا استثناء
كان المخبز واقعا على أطراف الحي الذي يجاوره ضاحية ريفية جداً، وهو ما جعل من تجربة الوقوف في الطابور تجربة حياتية ذات ثراء، فقد كانت أطياف الشعب المختلفة تقف في نفس الطابور، وهو ما أثرى التفاعل الثقافي لي وأنا في سن صغير هكذا
يااااااااه يا مراكبي
تصدق قلت تلاقيني سبت تعليق تاني لنفسي فقلت اقراه ولكني وجدت حضور المراكبي لحد الواحة في الصحراء
أتمنى أن لا تكون قد ضللت الطريق ومررت عفواولكن ستعاود الزيارة
تفتكر الوقوف في طابور العيش نوع من الحزن أو الاكتئاب ؟ ولا بجد عايزين عيش ؟
اولا احب احيكي بشدة على مهارتك في نقل التفاصيل
انا كمان تجربتي مع طابور العيش مثلك تماما فانا في حي شعبي وطابور العيش كانت مهمة لي يومية حيث انني كنت المسئول عن احضار العيش من الفرن
وهي فعلا تجربة مثيرة وجيدة واحيانا كثير تكون سيئة لما يحدث من مشاكل وظلم
اهنيكي جدا على مدونتك الرائعه والتي كنت اتمنى ان اعرفها من زمان
مهندس محمود
مصري بالغربة
اشكر قراءتك لما كتبت على العموم مدونتي موجودة تستطيع قراءة ما تحب سواء وجدتها اليوم أو من زمان
أعتقد ربنا عافاك من طابور العيش في الغربة
تحياتي
Post a Comment